فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}.
أي: لا يحضرون الباطل. يقال: شهد كذا أي: حضره. فالزور: مفعول به بتقدير مضاف أي: محالّه. ويشهدون من الشهادة. فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي: شهادة الزور أو بالزور. وقد أشار الزمخشريّ للوجهين بقوله: يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطّائين، فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزهًا عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه. لأن مشاهدة الباطل شركة فيه. ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعلية في الإثم لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه. ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور. انتهى وهي الكذب متعمدًا على غيره.
قال المبرد في الكامل: ويروى عن ابن عباس في هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور؟ فقال: لا، إنما آية شهادة الزور: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسئولا} [الإسراء: 36]، {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي: اتفق مرورهم بأهل اللغو، وهو كل ما ينبغي ويطرح، مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن كرامًا: جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي وعظوا بها وخوِّفوا: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي: بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية، مجتلين لها بعيون راعية. وإنما عبر بنفي الضد، تعريضًا لما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة، المستعار لها الخرور على تلك الحالة استعارة بديعة. لما فيهم من إسقاطهم من الإنسانية إلى البهيمية، بل إلى أدنى منها، لأنها تسمع وتبصر، وقد نفينا عنهم.
وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى، وزيادة إيمانهم إذا تلي عليهم الذكر الحكيم، آيات عديدة. ولذا قال قتادة فيهم: هم قوم عقلوا عن الله، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصريّ، فقد قال: كم من رجل يقرؤها، ويخر عليها أصم أعمى.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
أي: أولادًا وحفدة، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل. وقرة العين إما من القر وهو البرد. لأن دمعة السرور باردة، لذا قيل في ضده: أسخن الله عينه أو من القرار لعدم النظر لغيره، وجوز في من أن تكون ببيانه وعليه قول كثير من أن فيه الدعاء بصلاح الزوجات. وقوله تعالى: {واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: أئمة. اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس، مع رعاية الفواصل. أي: يقتدى بنا في الخير. أو هداة دعاة إلى الخير. فإن ذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا. قال في الإكليل: في الآية طلب الإمام في الخير. وفي العجائب للكرمانيّ: قال القفال وغيره من المفسرين: في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب. انتهى.
وكذا قال الزمخشريّ، عن بعضهم: إن فيه ما يدل على أن الرياسة في الدين، يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ} إشارة إلى المتصفين بما ذكر. خبر لعباد الرحمن أو مبتدأ خبره: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أي: على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات، والدأب على الخيرات، واجتناب المحظورات. والغرفة الدرجة العليا من المنازل في الجنة: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} أي: تحييهم الملائكة وتسلم عليهم. أو يحيّي بعضهم بعضا ويسلم عليه. والقصد أنهم يلقون فيها التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} لسلامة أهلها عن الآفات، وخلودهم أبد الآباد.
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} أي: لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده. فالدعاء بمعنى العبادة، كما مّر.
ثم أشار إلى أنه كيف يمكن العبء بهم، أو يتصور، وقد وجد منهم ما ينافيه، بقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أي: بما جاءكم من الحق. أي: وقد تلي عليكم سنة من كذب وأصرّ: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} اللزام: مصدر مؤول باسم الفاعل أتى به للمبالغة. أي: فسوف يكون هذا النبأ أو الذكر الحكيم، أو الأمر الجليل، أمر الرسالة، لازمًا وثابتًا. يفتح من الحق رتاجًا. وتدخل الناس في دين الله أفواجًا. ولقد صدق الله وعده. ونصر عبده وأعز جنده. هز الأحزاب وحده. نسأله تعالى خير ما عنده. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)}.
أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قِوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان، والتخلق بفضائله، ومجانبة أحوال أهل الشرك.
وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا {والذين لا يشهدون الزور} الآية.
وفعل شهد يستعمل بمعنى حضر وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى: {فمن شَهِد منكم الشهر فلْيَصُمْه} [البقرة: 185]، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى: {وشَهد شاهد من أهلها} [يوسف: 26].
والزور: الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب.
وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية: أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم، فيكون الزور مفعولًا به ل {يشهدون}.
وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم.
فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله: {والذين لا يَدعون مع الله إلهًا آخر} [الفرقان: 68].
وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام (68) {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسِيَنَّك الشيطانُ فلا تقْعُد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} ويجوز أن يكون فعل: {يشهدون} بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوبًا على نزع الخافض، أي لا يشهدون بالزور؛ أو مفعولًا مطلقًا لبيان نوع الشهادة، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حَقٌ.
وقوله: {وإذا مروا باللغو مروا كرامًا} مناسب لكلا الجملتين.
واللغو: الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه.
وتقدم في قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوًا} في سورة مريم (62).
ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور.
ومعنى: {مروا كرامًا} أنهم يمرون وهم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنِسُوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة.
والكرامة: النزاهة ومحاسن الخلال، وضدها اللؤم والسفالة.
وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى: {أنبتنا فيها من كل زوج كريم} [الشعراء: 7].
وقال بعض شعراء حمير في الحماسة:
ولا يَخيم اللقاءَ فارسُهم ** حتى يشقَّ الصفوف مِن كَرمه

أي شجاعته، وقال تعالى: {وأعد لهم أجرًا كريمًا} [الأحزاب: 44].
وإذا مر أهل المروءَة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة، وهذا ثناء على المؤمنين بترفّعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى: {وذرِ الذين اتّخذوا دينَهم لعبًا ولهوًا} [الأنعام: 70]، وقوله: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55].
وإعادة فعل {مروا} لبناء الحال عليه، وذلك من محاسن الاستعمال، كقول الأحوص:
فإذَا تزول تزولُ عن متخمّط ** تُخشى بوادره على الأقران

ومنه قوله تعالى: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} [القصص: 63] كما ذكره ابن جنّي في شرح مشكل أبيات الحماسة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 7].
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)}.
أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين وتلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه من آيات القرآن وطلب النظر في دلائل الوحدانية، فلذلك جيء بالصلة منفية لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذُكّروا بآيات الله خَرُّوا صُمًّا وعميانًا كحال من لا يحبّ أن يرى شيئًا فيجعل وجهه على الأرض، فاستعير الخرور لشدة الكراهية والتباعد بحيث إن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخرّ إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم والنهوض، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول.
ومنه استعارة القعُود للتخلف عن القتال، وفي عكس ذلك يستعار الإقبال والتلقي والقيام للاهتمام بالأمر والعناية به.
ويجوز أن يكون الخرور واقعًا منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوسًا في مجتمعاتهم ونواديهم فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام طأطأوا رءوسهم وقربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار، أو ستر الوجه كقول أعرابي يهجو قومًا من طيء، أنشدهُ المبرد:
إذا ما قيل أيُّهم لأيّ ** تشابهتْ المناكِبُ والرءوس

وقريب من هذا المعنى قوله تعالى حكايةً في سورة نوح (7) {واستَغْشَوْا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارًا} وتقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى: {يخِرُّون للأذقان سُجّدًا} في سورة الإسراء (107)، وقوله: {فخَرّ عليهم السقف من فوقهم} [النحل: 26] وقوله: {وخرّ موسى صَعِقًا} في الأعراف (143).
{وصمًّا وعُمْيَانًَا} حالان من ضمير {يخروا}، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه، أي يخِرّون كالصمّ والعُميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات والمبصرَ منها مما يُذكَّرون به.
فالنفي على هذا منصبّ إلى الفعل وإلى قيده، وهو استعمال كثير في الكلام.
وهذا الوجه أوجه.
ويجوز أن يكون توجّه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالبٌ وهو مختار صاحب الكشاف، فالمعنى: لم يخرّوا عليها في حالة كالصمم والعمى ولكنهم يخرّون عليها سَامعين مبصرين فيكون الخرور مستعارًا للحرص على العمل بشراشر القلب، كما يقال: أكَبّ على كذا، أي صرف جهده فيه، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون ويعمون عن الآيات ومع ذلك يخرّون على تلقّيها تظاهرًا منهم بالحرص على ذلك.